«وصول ومغادرة»! | هشام مدخنة

«وصول ومغادرة»! | هشام مدخنة


هشام مدخنة*

في زمن باتت تُقاس فيه الكفاءة بالإنتاجية لا بالحضور، ويُحتفى فيه بالابتكار والمرونة، بدلاً من الرتابة والتقييد، لا تزال بعض المؤسسات تُصرّ على نماذج تقليدية للعمل، كأنما لا شيء تغيّر منذ الثورة الصناعية. الموظف، في نظر بعض الإدارات، لا يُنتج إلا إذا كان جالساً أمام مكتبه لساعات، خاضعاً لمراقبة الكاميرات من حوله، ومحاطاً بجدران خرسانية وبوابات حديدية، مع حساسات تسجل عليه ال «تشيك إن» وال «تشيك آوت». فهل هذا حقاً ما يصنع الكفاءة، أم أن قياس الجهد بمدى «الالتصاق» بالكرسي ما هو إلا فخٌّ إداري يقتل الإبداع ويستنزف الطاقات؟
نعيش اليوم وسط تحولات كبرى في طبيعة العمل وسلوك الموظفين، فالأجيال الجديدة لم تعد ترى في الوظيفة التقليدية حلماً، وأصبحت تبحث عن عمل يمنحها مرونة، ومعنىً، وتوازناً مع الحياة، فالنموذج القديم الذي يربط الالتزام بالبقاء الجسدي في المقر، لم يعد صالحاً في عصر الاقتصاد الرقمي والمنصات العالمية، حيث يمكن إنجاز المهام من أي مكان وفي أي وقت.
مرونة الدوام، أو ما يعرف بالعمل المرن، تُعد من أبرز التحولات الإدارية في سوق العمل، خلال السنوات الأخيرة، لاسيما بعد جائحة كورونا التي دفعت معظم المؤسسات حول العالم إلى تجربة العمل عن بعد قسراً، لتكتشف بعدها، وربما بدهشة، أن كثيراً من المهام لا تحتاج إلى حضور فعلي، وأن الثقة بالموظف ليست رفاهية، بل ضرورة إدارية جديدة.
لقد بات معلوماً، بل ومثبتاً بتقارير شتّى، أن الدوام المرن يعزز الإنتاجية الفردية، وهذه من أبرز مزاياه، فحين يُمنح الموظف حرية اختيار زمان العمل أو مكانه، فإن ذلك يُشعره بالسيطرة على وقته ومسؤولياته، الأمر الذي يُنمّي دوافعه وقدراته على الإنجاز أكثر. واستناداً إلى طبيعة البشر غير المتشابهة، نجد أن البعض يُبدع في ساعات الصباح، بينما يلمع آخرون بعد الظهيرة أو في المساء. وهنا يأتي دور المرونة التي تتيح لكل موظف أن يعمل، وفق إيقاعه الذاتي، بدلاً من فرض جدول واحد على الجميع وكأنهم تروسٌ في آلات بيروقراطية.
كما أن الدوام المرن يساهم في تحقيق التوازن الأمثل بين الحياة والعمل، وهو عنصر بالغ الأهمية في الوقاية من الإرهاق النفسي والمشكلات الأسرية والاجتماعية، التي قد تؤثر سلباً في الأداء.
أما من الناحية الإدارية، فإن نماذج الدوام المرن تساعد على تخفيض التكاليف التشغيلية، خاصة في الشركات التي تعتمد على فرق عمل دولية أو مكاتب موزعة، فالمكتب الافتراضي أو نمط العمل الهجين، يُغني عن استئجار مساحات ضخمة، ويقلل من استهلاك الطاقة والنفقات الأخرى.
وجهة نظري، كمراقب لتطور بيئة العمل في منطقتنا، أن المؤسسات التي تصر على حبس موظفيها بين أربعة جدران لسبع أو ثماني ساعات يومياً، دون مرونة أو تفهّم لطبيعة الأدوار، إنما تُفرغ العمل من محتواه، وتحوّله إلى عبء يُثقل كاهل الشخص.
إن مرونة الدوام ليست غاية في ذاتها، بل وسيلة لإعادة تعريف العلاقة بين المؤسسة والموظف.. علاقةٌ تقوم على الوضوح والثقة، لا على الخوف والمراقبة. وبدلاً من سؤال الموظف «متى حضرت؟»، ربما حريٌّ بنا سؤاله: «ماذا أنجزت؟».
* صحفي متخصص في الشأن الاقتصادي