باتجاه نظرية جديدة للنمو | عبد العظيم محمود حنفي

د. عبدالعظيم حنفي*
تميز عقد الثمانينات بكثير من الجلسات النقاشية في الاقتصاد، وفي خضم تلك المناقشات، عام 1984، قام عالم الاقتصاد روبرت لوكاس من جامعة شيكاغو بتذكير زملائه بلغز عرف عموماً ب«مشكلة تزايد العوائد»، وقام بإلقاء محاضرة شهيرة، استطاعت أن تضع هذا الموضوع في قلب التساؤلات السياسية لتلك الفترة، وتلا تلك الأحداث جدل كبير. استطاع الاقتصاديون المتخصصون في الاقتصاد الكلي من الجيل الجديد أن يأخذوا مواقعهم، كما استطاع الصغار أن ينافسوا و«يربكوا» الكبار، وظهر الاقتصاديون الشومبيتريون الجدد والاقتصاد الجديد للمنافسة غير الكاملة، والاقتصاد الجديد للتغييرات التقنية، وثورة تزايد العوائد ونظرية النمو الجديدة، أو بشكل أكثر غموضاً وبساطة، ظهر ما عرف بالنمو الداخلي.
ولم يعد هذا التقاطع مظلماً على أية حال، في خلال عقد كامل أصبح الركن الذي تلتقي فيه النظرية بالتاريخ مضيئاً بمشاعل ساحة المعركة وبالومضات المضيئة، حيث تلاقى المؤرخون والمنظرون الجدد لنظرية النمو على أغراض متقاطعة وتولى الرئاسة جون موكير، مؤلف كتاب «رافعة الثروة: الإبداع التكنولوجي والتقدم الاقتصادي»، قبل توليه أي منصب كان أحد أفراد الجيل الجديد من المؤرخين الاقتصاديين، الذين عملوا على حل مشكلة التغيرات التقنية، وكانت له مصلحة كبرى في العمل على تعريف أهم العناصر الخاصة بالنمو. من لندن قام المؤرخ نيكولاس كرافتس بإرسال بحث بعنوان «الثورة الصناعية الأولى: جولات سياحية لاقتصاديي النمو»، وكرافتس هو صاحب ما عرف بين المؤرخين الاقتصاديين بعنوان «رؤية كرافتس هارلي الخاصة بالثورة الصناعية في إنجلترا»، ولكن المفارقة تكمن في أنه لم تكن هناك ثورة صناعية، وأن حالة الاتجاه أو الإقلاع نحو النمو المستمر في القرن الثامن عشر كانت وهماً، ولا بد أن يتم التعامل مع سنوات المعجزة على أنها نتيجة لأرقام مؤشرات مضللة.
لقد نظرت أبحاث كرافتس بعين باردة إلى نظريات النمو الحديثة، وهو العمل المرتبط ببول رومر، كانت لغته لاذعة، كما كان يتعامل بحذر وتشكك مع الادعاءات الجديدة، حتى أنه تردد في مواجهتها بشكل مباشر، وكان يرى أن التأكيدات الجديدة على حجم السوق خارجة عن السياق على حد قوله. حيث إن الدليل التاريخي كان أقل من أن يكون ضاغطاً، إذا ما كانت هناك ثورة نظرية، فمن الصعب الحديث عنها، من خلال استجابة أحد المؤرخين لنظرية النمو الجديدة.
وحين أتى دور رومر، الذي اكتسب سمعته من أنه أحد أكثر أبناء الجيل الجديد تميزاً في الرياضيات، وقدم ورقة بحثية عام 1986 بعنوان «العوائد المتزايدة والنمو طويل الأجل»، واتسمت بالصعوبة والتقشف، فقد احتوت نسخة 1990 على معادلات رياضية أقل صعوبة وكانت بعنوان «التغييرات التكنولوجية الداخلية»، ويرجع الفضل في ذلك إلى روبرت لوكاس، إضافة إلى الصياغة الصارمة التي قام بها رومر للمشكلة، فقد تحولت تلك الصياغة إلى قنبلة، على الأقل على صعيد المجتمع الضيق من واضعي نظريات النمو، ولكن أدت تلك الصياغة إلى وضع رومر في موقف مضاد ليس فقط لأستاذه لوكاس، ولكن لتقاليد جامعة شيكاغو بأسرها، والتي تتعامل مع المنافسة الكاملة على أنها افتراض أساسي.
مرت ست سنوات، منذ قيام رومر بتقديم أهم أوراقه البحثية، وقد تم اختبار تلك الأمور بشكل تام من قبل مجتمع صغير من واضعي نظريات النمو، وحاول رومر أن يقفل الحلقة وأن يصف نموذجه بطريقة أكثر سهولة، أن يقوم بمقارنته بتفسيرات بديلة وكان عنوان تلك الورقة «لماذا في أمريكا في الواقع؟ النظرية والتاريخ وأصول نمو الاقتصاد الحديث»، يبدأ بالدفاع عن الطرق الرسمية، وفي كل مرة يقوم فيها بتقديم صيغة رياضية، يقول إنه يسمع نفس المعارضات، حيث يشكو بعضهم قائلاً «تلك المعادلات بسيطة والعالم أكثر تعقيداً»، في حين يدعي بعضهم«أن المعادلات لا تقدم أي شيء جديد». فيقول رومر على سبيل المثال «إن الاقتصاديين منذ آدم سميث استطاعوا أن يفهموا الناتج الإجمالي Y»، وهو الحرف الذي يرمز به الاقتصاديون إلى الناتج الإجمالي في معادلاتهم – اعتماداً على كمية رأس المال الطبيعي ومجهود العمل المبذول- ولكن في الخمسينات، عندما حاولت مجموعة من الاقتصاديين من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT أن يعبروا عن تلك العلاقة رياضياً كدالة الإنتاج الكلي، توصل اقتصاديون إنجليز إلى وصف رائع. ولكن على أية حال، فإن فكرة دالة الإنتاج، وهي عبارة رياضية تعبر عن العلاقة بين المدخلات والإنتاج، أصبحت مقبولة بشكل سريع حول العالم، حيث تمثل طريقاً مختصراً لقياس الإنتاجية. وبعد مضي بضع سنوات، قام اقتصاديون من جامعة شيكاغو بتقديم سلسلة من المعادلات الجدية التي هدفت إلى حساب تراكم الخبرة والتعليم لدى الأفراد، والتعامل معه على أنه متغير ورمزوا له بالرمز H. وفي تلك المرة أتت المعارضة من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وآخرين، ولكن بالرغم من ذلك فإن «رأس المال البشري» كقياس لإنتاجية وقدرات الأفراد، أصبح أداة قياسية معترفاً بها.
* كاتب مصري وأستاذ للعلوم السياسية والاقتصادية
[email protected]
تعليقات