نوح: قصص بسيطة جداً تكشف عن قوة العجز وعجز الحيلة

في الطريق بين إسماعيلية والقاهرة، كان اليوم الثلاثون من يناير لعام 2011، حين نزلت من الميكروباص مع صديقي رضوان. كانت الأعداد كثيرة، ما بين وقوف وجالس، فمن لا يحمل بطاقة، مثلي، إلى الممنوعين من السفر بسبب التجنيد، وكذلك أولئك المضبوطين بقطع حشيش أو سجائر بانجو أو حتى ترامادول. في تلك اللحظات، حضرت في ذهني صورة الأعداد المتزايدة، والتي كانت تقدر بمائة أو أكثر، في انتظار قرار الضابط المسؤول؛ حيث كانت الأعداد تفوق قوة الكمين عدة أضعاف.
الانتظار في الكمين
كانت الأضواء الوحيدة المنبعثة هي كشافات سيارات الشرطة التي أضأت المكان المعتم. كانت رياح الشتاء تلسع الجميع، فيسعى الناس إلى هزيمة الانتظار والبرد بالتدخين كإحدى وسائل الهروب. بينهم تبادل الحديث للفرار من وطأة الزمن والبرد، “يقولون…”
أحداث الفوضى
يتردد أن المتظاهرين أضرموا النيران في مراكز الشرطة بالإسكندرية، وسيطروا على أسلحة قسم الأربعين في السويس. وهناك من فجّر مبنى أمن الدولة في رفح، وبعضهم اقتحم سجن أبو زعبل المحصن بشدة. في خضم الفوضى التي تعم البلاد، تساءلت في نفسي: ما الذي يجعل هذا الضابط متمسكا بعمله في هذا الطريق المظلم، على الرغم من كل ما يجري من حوله؟
استغاثة
تقدمت إليه قائلًا: “يا باشا، نحن صعايدة نعمل في المعمار، تعرضنا لهجوم من بلطجية ولم نترك معهم شيئًا، حتى الورق الذي بحوزتنا أخذوه.”
ألقى عليّ نظرة سريعة ثم عاد إلى عمله، طالبًا من الصول إبعادي. لكنني شعرت برعشة يده وهو يمسكني وقلت له: “بالله عليك، قُل للضابط أن يتركنا، نحن في ظروف صعبة، حتى النقود لا نملك.”
المسؤول | الموقف |
---|---|
الضابط | التحقيق في الكمين |
صول | مرافقتي للضابط |
بعد لحظات، أشار إليّ الضابط بالاقتراب وسألني عن رفيقي، فأشرت إلى رضوان. خضعنا للتفتيش ولم يعثر سوى على سبحة الحاج إبراهيم التي كنت أعلقها في صدري.
استغرقنا في التأمل للحظة، ثم أخرج الضابط بعض المال قائلاً: “خذا، وتوكلوا على الله.” كنا في حالة من الذهول، نظرنا إلى بعضنا البعض، لكنه هز رأسه مشجعًا: “قبل أن أغير رأيي.”
فرار ونجاة
ومع اقتراب الساعة من الواحدة صباحًا، بدأنا نقاوم البرد بالمشي، حتى رأينا لمبة ساطعة تلوح من بعيد، وعندما اقتربنا، كانت اللافتة تشير إلى “كافتيريا الأبطال”.
كان الجوع يعصف بنا، فقال رضوان: “دعنا ندخل ونتناول الطعام، حتى لو تم القبض علينا، سنكون قد تناولنا العشاء.”
داخل الكافتيريا، وجدنا نحو عشرة جنود يفترشون الأرض حول أطباق الفول والبصل، وكانت أجواء المكان تشي بأنهم كانوا في قمة راحتهم.
أمل غير متوقع
قبل مغادرتنا، أصر أحد الجنود على تقديم الطعام لنا، وتناولنا الطعام معًا كأننا أسرة واحدة. ولكن حين سمع تفاصيل رحلتنا، أبدى أحدهم تململًا قائلًا: “ممنوع البقاء هنا.”
في خضم هذه الأحداث، كنت أحاول التكيف مع ما يحدث، فقد خططت لسنوات لتفادي العودة إلى سجن ضرار، وأصبحت الآن أجد نفسي في حالة من الفرار. وفيما كنت أفكر، ظهرت كافتيريا أخرى في الأفق. لم نكن في حاجة سوى لطوق نجاة.
عندما اقتربنا، وجدنا سيارة أجرة مرسيدس. سألنا السائق عن وجهته، لكنه أوضح أنه يحمل زبائن مزدوجين. جلسنا محتارين، وطلبنا الشاي بينما كنا ننتظر ما ستؤول إليه الأقدار.
نظرت إلى رجل مسن يرتدي نظارات ويدير الكافتيريا، حيث كان يبدو كأن لديه الكلمة الفصل. لكن المفاجأة جاءت عندما التقيت وجهًا لوجه مع شخص كان قد عرفني قبل خمس سنوات، إذ كانت تلك شريحة من الماضي تنقلب أمامي.
أصرّ الرجل على تقديم أفضل ما لديه، بينما كنا في حاجة إلى المساعدة والاختباء. وأخيرا، قرر أن يهربنا في عربة خضار متوجهة إلى القاهرة.
ومكثنا في رحلة عصيبة، حيث تحولت الأجرة من 25 جنيهًا إلى 125، ما أثار قلقنا. لكننا لم نكن نملك خيارًا آخر.
لم أدخل سجن ضرار منذ عشر سنوات، والآن أصبحت أدخله متخفيًا، تحت وطأة الظلام والبرد، حتى دقت على باب منزلنا، حيث سألتني أمي من الداخل: “من؟”. همست: “نوح”، لكن لم تسمع. وتقدمت فقط خطوة واحدة، قبل أن تسقط قدمي في العتبة، لأجد نفسي في وضعٍ لم أكن أتوقعه.
تعليقات